31‏/03‏/2008

الحسين



قـد قـال لـي يـومـاً أبـي

إن جـئـت يـا ولـدي الـمـديـنـة كـالـغـريـب

وغـدوت تـلـعـق مـن ثـراهـا الـبـؤس

فـي الـلـيـل الـكـئـيـب

قـد تـشـتـهـي فـيـهـا الـصـديـق أو الـحـبـيـب

إن صـرت يـا ولـدي غـريـبـاً فـي الـزحـام

أو صـارت الـدنـيـا امـتـهـانـاً .. فـي امـتـهـان

أو جـئـت تـطـلـب عـزة الإنـسـان فـي دنـيـا الـهـوان

إن ضـاقـت الـدنـيـا عـلـيـك

فـخـذ هـمـومـك فـي يـديـك

واذهـب إلـى قـبـر الـحـسـيـن

وهـنـاك صـلِّ ركـعـتـيـن

الحسين ..

و كأنما اكتشفت فجأة أن هناك مكان ما على وجه البسيطة ... يدعى الحسين ..

كنت أقرأ هذه القصيدة للمرة الألف ربما .. لكني لم أعرف سر الشعور الذي اجتاحني و أنا أقرؤها هذه المرة بالذات .. شعورٌ لا يوصف ، خليطٌ غريبٌ من الحنين و الرثاء و الأمل ..

الحنين لأرى ذلك المكان ..

و الرثاء لأنني لم أزره قط من قبل ..

و الأمل في أن تذوب أحزاني هناك إذا ما صليت الركعتين ..

كـانـت هـمـوم أبـي تـذوب .. بـركـعـتـيـن

كـل الـذي يـبـغـيـه فـي الـدنـيـا صـلاة فـي الـحـسـيـن

أو دعـوة لـلـه أن يـرضـى عـلـيـه

لـكـي يـرى .. جـد الـحـسـيـن

قـد كـنـت مـثـل أبـي أصـلـي فـي الـمـسـاء

وأظـلُ أقـرأ فـي كـتـاب الله ألـتـمـس الـرجـاء

أو أقـرأ الـكـتـب الـقـديـمـة

أشـواق لـيـلـى أو ريـاضَ .. أبـي الـعـلاء

الحسين ..

شامخاً يقف ..

عزيزاً يقف ..

أبيض اللون يلتمع تحت الأضواء يقف ..

وقفت في الساحة أمامه .. لم أدر كم ظللت من الوقت واقفاً هناك ..

شيء ما يشدك إليه بكل كيانك ..

شيء ما يسيطر عليك و يتملكك فلا تستطيع الهروب أو الفرار ..

لا تمل الـتأمل و النظر ..

لا تسأم التحديق ..

و تظل كذلك حتى تشعر بأنك لم تعد قادراً على تحمل المزيد .. و قبل أن تفكر أو أن تحاول أن تفعل .. تجد نفسك تخطو تجاهه مأخوذاً ، مشدوهاً ، مسحوراً ..

تدلف إليه شاعراً برهبةٍ خفيةٍ عظيمة ..

يالله ، لو كانت هذه رهبة دخولك الحسين .. فما مقدار الرهبة التي يستشعرها من يزورون بيت الله ؟؟

بين يدي الله تقف .. تشعر بسموٍ و شفافيةٍ لا نهائيين .. تشعر بأن كل ما يثقل كاهلك من أحزان و هموم قد ارتمى و تلاشى ..

لا شـيء فـيـك مـديـنـتـي غـيـر الـزحـام

أحـيـاؤنـا .. سـكـنـوا الـمـقـابـر

قـبـلَ أن يـأتـي الـرحـيـل

هـربـوا إلـى الـمـوتـى .. أرادوا الـصـمـت .. فـي دنـيـا الـكـلام

مـا أثـقـل الـدنـيـا ...

وكـل الـنـاس تـحـيـا .. بـالـكـلام

تحس بأنك أخف من ريشة .. و أنقى من قطرة ندى .. و أعذب من صوت بلبل يشدو ..

ما الذي يسيل على وجنتَيَّ ؟؟

يصل السائل الملحي إلى شفتيَّ ..

أأبكي !!

أنا الذي لم يبكِ منذ عصور ..

لم أحاول منع نفسي .. فكأنما كل قطرةٍ تروي شيئاً من روحي العطشى .. و تَرْأَب صدعاً في نفسي الحائرة ..

مـاذا سـتـفـعـل يـا أبـي

إن جـئـتَ يـومـاً دربـنـا

أتـرى سـتـحـيـا مـثـلـنـا ؟؟

سـتـمـوت يـا أبـتـاه حـزنـاً .. بـيـنـنـا

وسـتـسـمـع الأصـواتَ تـصـرخُ .. يـا أبـي : يـا لـيـتـنـا ..يـا لـيـتـنـا .. يـا لـيـتـنـا

وغـدوتُ بـيـن الـدربِ ألـتـمـسُ الـهـروب

أيـن الـمـفـر؟

والـعـمـرُ يـسـرع لـلـغـروب

ألقيت نظرة عليه قبل الرحيل ..

ما زال الحسين شامخاً يقف ..

عزيزاً يقف ..

أبيض اللون يلتمع تحت الأضواء يقف ..

لكن الشخص الذي رآه في المرة الأولى .. لم يعد يقف ..

و أدركت أن فاروق قد أخطأ حين قال:

أبـتـاهُ

بـالأمـس عـدتُ إلـى الـحـسـيـن

صـلـيـتُ فـيـه الـركـعـتـيـن

بـقـيـت هـمـومـي مـثـلـمـا كـانـت

صـارت هـمـومـي فـي الـمـديـنـةِ

لا تـذوب بـركـعـتـيـن

لأن همومي كلها ..

قد ذابت بالركعتين ..