17‏/08‏/2007

أَحبَّت الظلام



لطالما أحبت الظلام و أحست أنه ذلك الرفيق الذي يجب أن تكون معه دوماً..
لطالما أحست أن الظلام حماية..
لطالما أحبت الليل بسكونه و هدوئه و غموضه..
لهذا كانت تتوق للذهاب إلى الريف و تكره المدن..
لأن المدائن لا ليل لها..
و العجيب أنها كانت تفخر بذلك أمام أقرانها الصغار ، هؤلاء الصغار الذين لم يبارحوا المدارس الابتدائية بعد. و كعادة الأطفال مع كل من يختلف عنهم ؛ بعضهم سخر منها ، آخرون أوجسوا خيفة منها و الكل تداول ذلك الاسم الذي أطلق عليها: خفاشة.
.إن الظلام لا يعني لهم إلا الخوف و الرعب..لا يعني إلا تلك الأشباح التي يتخيلها كل منهم تحت السرير أو على الجدار..لا يعني إلا الوحدة و العجز و الألم..
لكن أياً منهم لم يفهم ، كيف لهم أن يفهموا و هم لم يعيشوا ما عاشته ، لم يمروا بما مرت به ، لم يشعروا بكم الأسى و المرارة اللذين فاقا حجم قلبها الصغير..
هي وحدها كانت تعلم لم الظلام صديقها..
هي وحدها عرفت كم هو رحيم..
إنها تذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله..
كان أول يوم في رمضان ، ذهبت هي و أمها و أخواتها الست إلى ذلك المسجد القريب من منزلهن. حملن معهن ما تيسر من الزاد ليوزعنه في المسجد ، أردن أن يتقاسمن فرحة صيام و إفطار أول يوم من هذا الشهر الكريم مع غيرهن..مُدَّت المفارش و صُفَّت الأطعمة التي أحضرها كل من أتيْن إلى المسجد . جلس الجميع في انتظار الأذان..
فجأة اقتحم الجنود الصهاينة المسجد الصغير ، انتشروا في الزوايا و الأركان . دنسوا بأحذيتهم القذرة بيت الله..أهانوا القرآن .. مزقوا المصاحف و أحرقوها..
كانت جولة استثنائية لهم بدواعي حفظ الأمن من أبطالنا الذين يسمونهم – بلا حق يذكر – إرهابيين ؛ بمناسبة أول أيام الشهر المقدس عند المسلمين كما أخبرهم قائدهم..
انسلت الصغيرة – التي لم يجاوز عمرها آنذاك السنوات الخمس – من بين النساء و الفتيات و توارت خلف إحدى الستائر . ساعدها ذلك الجسد الضئيل على البقاء بعيداً عن الأنظار.
و بدلا من سماع آذان المغرب و انطلاق مدفع الإفطار ، انطلق دوي الرصاصات شاقا سكون الشفق ممتزجا بصرخات النساء و بكاء الفتيات اللاتي كان الأوغاد يعتدون عليهن..صك مسامعها صوت العويل و النحيب ، و طلقات النيران . لم تتمالك الصغيرة أعصابها ، وفقدت الوعي في ذلك المخبأ البسيط الذي اختارته لنفسها..
عندما استيقظت كان الظلام قد أغرق كل شيء بستائرة الداكنة . لم تكن ليلة مقمرة و لم يكن في ذلك الحي البسيط أي مصباح مضاء . تحسست طريقا من مكمنها يغلفها ذلك الظلام البارد ، أخذت تنادي على أمها و أخواتها الست و لكن ما من مجيب..
و الصغيرة تمشي على غير هدى ، لم تستطع إيجاد الباب من فرط رعبها . فها هي ذي الآن وحيدة مصدومة و هي التي لم تتعود أن تنام كل ليلة إلا في أحضان أمها ففقدت الوعي مرة أخرى..
أفاقت على أصوات أناس كثر ، ما بين من يحسبن و يحوقل و يسترجع..كان من الواضح أن أحداً لم يرها بعد ، قامت فرأت ما هالها ، الجثث في كل مكان حولها ، عندها رآها أحد الرجال فأسرع نحوها ليحملها و قد جمدت من هول الصدمة .
في طريقها محمولة للخارج وقع نظرها على أمها و أخواتها الست ، صرخت الفتاة بكل جوارحها..
لكم تساءلت بعد ذلك : لم لم يدم الظلام حتى لا أرى أمي و أخواتي و قد فارقت عيونهن الحياة ؟لم لم تبق أيها الظلام لتحميني من المنظر البشع ؟؟نجت الفتاة بجسدها..
لكن من ينقذ روحها التي دمرتها الصدمة..و من يجمع أشتات نفسها التي تركتها في ذلك المكان الذي كان يوما مسجدا ؟؟

ليست هناك تعليقات: